سأرهق قلبي أقل.. لأعيش أكثر

سأرهق قلبي أقل.. لأعيش أكثر

"س" أو "ص"

لا أكتب فكرة محددة.. لكنني.. ربما.. أتمنى.. أن تقرأ هذا للأخير..
لاأعلم من أين تأتي الأفكار أولاً.. لكنني لاأجد تمرداً أشد خبثاً.. من تمرد الذاكرة..ولذلك.. أنا -وكالعادة- أكتب للخلاص..
لمجرد النسيان..؛ علاج وعلة الذاكرة، الدائمان، في آنٍ واحد…
علاقات الذاكرة.. غريبة.. ومتشعبة.. وشائكة..
هناك علاقة بين العطور والذاكرة.. الأماكن والذاكرة.. الأدوية والذاكرة.. الكتب والذاكرة..؛ وكلها تؤدي إلى روما..؛ لكن الذي تبحث عنه.. في برلين.. أو في شمال كوبناهاجن.. أو في منتصف مقبرة.. أو في الجن.. لكنه ليس في روما.. حتماً..
**
في الدور الثالث من العمارة.. حيث أسكن ولاأنتمي.. أراقب..؛ وراء كل جدار.. تُقام العشرات من المراسم.. بشكلٍ يومي.. مراسمُ للفرح.. مراسمُ للحداد.. مراسمُ لِتَمَلُّكِ شيئٍ ما.. قد يكون تافهاً وربما لا.. مراسمُ كثيرة.. لأي نوع من الغرائز.. على مدارِ وبحجمِ قُطْرِ اليوم وساعاته.. لكنها على مستويات.. الأمر كله متعلق بالمستويات.. حجم بعضها يصل قريباً من الكرنفالات..؛ وبعضها لايتجاوز الكعب..
**
أسفل العمارة.. صيدلية.. تصطف قبالها سيارات المستأجرين..؛ وأنا.. أحدق.. أراقب المباني..؛ أقوم أحياناً بتخيل وظائف المارَّة.. بناء على ملابسهم.. وعلى مايحملون من حقائب الباكباق.. أو بناءً على موديل سياراتهم.. وهكذا..؛ أراقب الأرصفة.. أرضية الباركينق.. جدران المستوصف المقابل.. نوافذ الحي.. مضاءة.. مفتوحة.. مغلقة..؛ لاشيئ محدد في رأسي.. سوا الماء والصابون..!! نظيف..!! تماماً..!!
**
أتابع تحركات العم عزيز.. حارس العمارة..؛ أتسائل أحياناً ماإذا كان يعلم أنه سيقضي بقية حياته.. مكفولاً لأحد.. مسلوب الصلاحيات والحول.. حارساً لعمارة..لايمتلك منها.. حتى بلاطة !
أتسائل أحياناً.. ماذا لو كنتُ أتمنى أن يختفي كل الأغبياء، لكني أتفاجأ.. أنني لست ذكياً كفاية للنجاة..! ماذا سأفعل حينها..؟! ماذا لو اختفيت أنا.. وكل الأغبياء..؟ كيف سيكون شكل العالم..؟ من كان ليحكم الولايات المتحدة الأمريكية عوضاً عن ترامب لو اختفى الأغبياء والبلهاء..؟ من سيصدق نظرية المؤامرة؟ كيف سيكون شكل نظريات العالم الجديد على أية حال..؟ العالم الخارق.. الذكي لدرجة المثالية..!
**
أعتقد أحياناً.. أن هناك اموراً بديهية وبدائية جداً..
لكن “بديهي” تختلف عن “صائب”..
مثال:
يراهن عالم الفيزياء “باسكال” أن الإيمان بوجود الخالق.. هو الخيار الأمثل..
بجانب نظرياته في الفيزياء، “باسكال” وضع رهاناً مبنياً على نظرية الاحتمالات.. يتمثل في حجة مبنية على الاحتمالات النسبية، وتُستخدم للاحتجاج بضرورة الإيمان بوجود الله على الرغم من عدم إمكانية إثبات وجوده أو عدم وجوده عقلياً..
النص الأصلي لباسكال مطول ومتفلسف جداً لكن يمكن تلخيصه كالتالي :

  • إن آمنت بالله وكان الله موجوداً، فسيكون جزاؤك الخلود في الجنة، وهذا ربح لامحدود.
  • إن لم تؤمن بالله وكان الله موجوداً، فسيكون جزاؤك الخلود في جهنم، وهذه خسارة لامحدودة.
  • إن آمنت بالله وكان الله غير موجود، فلن تُجزى على ذلك، وهذه خسارة محدودة.
  • إن لم تؤمن بالله وكان الله غير موجود، فلن تُعاقب لكنك ستكون قد عشت حياتك، وهذا ربح محدود..
    رياضياً، أي ربح محدود أو خسارة محدودة يمكن إهمالها عند المقارنة بالأرباح والخسائر اللامحدودة..
    وبالتالي، استنتج باسكال أن الإيمان بالله هو الخيار الأفضل مقارنة مع عدم الإيمان به..
    مات باسكال مؤمناً بأن هناك حدودًا للحقائق التي يمكن أن يدركها العقل، وأن الإيمان من القلب هو المرشد الرئيسي إلى الحقائق..
    “بديهي” إذاً.. تخلتف عن “صائب” لأنه لاأحد يعلم.. إن كان باسكال مات مخالفاً لنظريته.. أو موافقاً لها.. أو إن كانت على بديهيتها صائبة.. أو على صوابها بديهية..
    **
    قد لاأكون مُحِقّاً.. لكن الذاكرة.. في تصوري.. ليست عضواً بقدر ماهي مرض.. مثل الأمراض الفيروسية الأخرى.. التي ماإن يتعرف على شكلها الجهازُ المناعي.. حتى تُطَوِّرَ من شكلها وخصائصها.. وتجيئه بشكلٍ آخر.. أكثر تقدماً وضراوة؛ وأحياناً.. أشد فتكاً وضررا..
    أتسائل أحياناً.. ماإذا كان القلب.. على اتفاق مع الذاكرة أصلاً.. ومع تقلباتها المفاجئة والمباغتة..
    **
    القلب.. أكثرُ أعضاءِ الجسدِ مَسْكَنَة..!! إنه العضو الوحيد.. الذي تستطيع أن تقول عنه “مسكين”..
    لأنه الوحيد.. الذي لاتحق له الراحة.. حتى وأثناء النوم..يكون في مناوبةٍ ليلية..!! إنه ليس مجرد كتلة عضلية.. إنه “مضغة”.. تخيل الضعف..!! وإنه ليس بحجم رقعة الكف.. بل أصغر..!! لأنه إن ما أردت مقارنته بحجم اليد.. فعليك ضم قبضتك.. لتصبح أصغر..!!
    ذلك المسكين..
    **
    إن الوزن..(فيزيائياً) يتناسب عكسياً مع السرعة..؛ لذلك.. كلما زادت سرعة إدراكك لحقائق الأمور.. كلما تناقص وزن الحمل عن كاهلك.. وأظن أنه لذلك السبب كان محل النية.. هو القلب..؛ وإن سلّمنا أن الفؤاد.. هو القلب.. فالوظيفة القرآنية للفؤاد هي أن يعقل..! أن يدرك الأمر..! أن يحلل.. أن يخوض في المتغيرات.. أن يعيد النظر في الثوابت.. أن يحمل مسؤولية صلاح الجسد كله.. أو فساد الجسد كله..! أن يتحمل همجية الذاكرة.. أن يفند متطلبات الحياة الصحية والسليمة.. التي تضمن التوازن والبقاء.. أن يعي ماذا يريد العقل.. أن يدرك ماذا يريد المنطق.. أن يتسامى لما تريده الروح.. أن يحقق مطالب البدن.. الفيزيائية والعقدية والكيميائية والماورائية..؛ وتطول القائمة..
    إنه العضو المخصص.. الذي ينظر إليه الله.. وتلك لوحدها.. مسألة جسيمة.. تقع على كاهل المسكين..
    **
    أتجول بناظريّ.. في الباحة الخلفية للعمارة..؛
    وبالنظر إلى ركام النفايات.. أتسائل.. لماذا يتعلم الأطفال على أية حال.. ويدرسون.. من أجل مستقبلٍ.. لن يعيشوه..!! هذه القمامة.. لاتنم إلا عن جهل البشر في حق الأرض.. ولاتشي إلا باختلال توازنٍ بيئيٍ هائل.. يندفع من عمق الكون.. يلتهم مستقبل الأرض، وحاضرها..!! أنا متشائم؟ نعم، أنا كذلك..؛ لايدعو حاضر البشرية للتفاؤل.. وأعتذر لنفسي.. وللرسول الأكرم.. الذي كان يعجبه الفأل.. لكني ماأتاني ملكان.. يغسلان صدري بطهر الجنة..؛ أنا مسكين.. وأحمل القلب الضعيف المسكين.. أخاتله عن الصواب، وأجافيه..؛ وأعاتبه على الزللِ، وآتيه..؛ وهكذا تكتمل بشريتي..
    **
    في الحقيقة.. اسم العم عزيز.. هو “عبدالعزيز”.. لكنه يحب أن تنسب إليه العزة.. وكذلك أحب أن أناديه.. ولو لجبر الخاطر..
    يقوم قبل الفجر..؛ لا أزال أنا مستيقظاً من الليلة الفائتة.. أراه يغسل أحزان الليل.. بماء وضوء..؛ يصلي قبل الفجر..؛ يترك الباب موارباً ليسمع الأذان..؛ يؤذن لصلاة الفجر حين يسمع آخر يؤذن.. ربما لأنه لايعرف التوقيت..؛ وهكذا يفعل مع كل صلاة.. ينتظر أحدهم، ويؤذن تباعاً..
    **
    لهذا العجوز ..أصدقاء.. يأتونه كل صباح..؛ يجتمعون حوله.. في غرفة الحارس..؛ هو لايسهر كثيراً.. ولذا.. فالوقت المناسب هو بُعَيدَ الفجر.. لنزهة صباحية.. أحسبهم يختلسونها خُفية.. من بين أحاديثه.. يستأنسون بها بقية اليوم..؛ هكذا أظن.. ؛ يكنس مقابل الباب..؛ يمسح الأرضيات.. يُطعم قطاً أسود مُرَقَّشَاً بقطعتين من البياض على جانبيه.. صارت بُنِّية اللون.. من فرط تشرده.. لكنه اتخذ من باب العمارة.. ملجئاً.. ينام إلى خلفه.. ويُطعمه العم عزيز.. بعد، أو مع كل وجبة..؛ ينتظران الشروق.. ثم يختفيان..
    لا أكاد أرى العم عزيز.. وذلك المرقش.. إلا قُبيل النوم.. أو بُعيد الفجر.. حتى أن أفكاري -لغرابتها- جرتني مرة للتفكير أنهما من الفامبايرز!! قبائل مصاصي الدم.. الذين يحرق الضوء والشمس أجسادهم..!! لا عليك.. إنها مجرد فكرة هوليودية طائشة..
    **
    الأحداث اليومية.. قليلة جداً بالنسبة للعم عزيز..؛ ينام.. يصحو.. يفطر.. يحادث العائلة.. أو لاأدري مَنْ..؟ بناته؟ زوجته؟ لاأدري..؛ قد.. يكون متزوجاً من اثنتين وفي كل صباح يحادث واحدة..؛ المهم أن له في كل صباح.. جلسة اتصال.. مقابل باب الشقة رقم ٦.. لماذا الشقة ٦ بالتحديد..؟ لاأدري أيضاً.. قد يكون للأمر علاقة بجودة شبكة الاتصال..؛ وهكذا.. تنتهي يوميات ذلك الرجل البسيط..
    **
    قد يكون عميلاً سرياً لبلاده بالمناسبة.. وذلك الوقت من الصبح.. هو وقت رفع التقرير اليومي.. لكن العم عزيز بريئٌ جداً بالنسبة لهذه الفكرة.. لكنني كلب..؛ ولذلك.. أتخيل في نفسي..أنه قد يكون عميلاً متخفياً..! يتصل بحكومة بلاده.. كل يوم..؛ يرفع التقرير.. يستلم الأوامر الجديدة.. يكسر شريحة الاتصال..؛ ثم يشتري واحدة أخرى.. لاتصال واحد.. في كل مرة..! مثلما كان يفعل أسامة بن لادن عندما كان في تورا بورا وأفغانستان..
    العم عزيز لايجيد استخدام الانترنت.. (أو هو كذلك كما يزعم).. لكنني أقول أحياناً.. قد يرفع البلاغات والتقارير.. مستخدماً VPN لكسر خاصية المراقبة..
    **
    لاأحد يفكر بهذه الأفكار.. إلا أنا..؛ وليتني أعلم.. لِمَ تملؤ هذه الأفكار رأسي..؟؛ أليس لدي ماأفكر به؟ أليس لدي أموراً أهم لأفعلها؟ أليس من الأفضل لو قرأت كتاباً آخر..؟ لو مارست رياضة..؟؟ بلى، لكنني أبله.. لا أفعل..؛ تُسَوِّر هذه الأفكار مخيلتي، وتطغى..! ثم أعود أكتبها.. وأفشل في الحفاظ عليها.. وأفشل في نشرها.. وأفشل في الخلاص منها.. وأفشل في تصديقها.. ويذهب وقتي.. للهواء..!!
    قد يكون ذلك المسكين نائماً.. أو يفكر في تحصيل وجبة غداء.. أو أن لديه مايشغله، هنا أو في بلاده..؛ وأنا وشارلك هولمز الذي بداخلي.. نتقصَّى عن المسكين تحرياتِ كلب..!!
    **
    للعم عزيز طاقة كهل.. بالكاد تكفي لأن يمسح نصف دور في كل يوم.. فهو يُقَسِّمُ أدوار العمارة.. كفي كل يومين دور..؛
    الثلاثاء والأربعاء.. غالباً.. هما للدور الثالث.. حيث أنا..؛ لذلك، أكون حاضراً في الصبيحة، حريصاً على لقائه، وعلى السلام عليه.. كتعويضٍ خفيّ.. لمشروع تشويه السمعة.. الذي يبنيه عقلي.. في كل مرة..
    **
    أستطيع القول.. أن العم عزيز.. يظن بي خيراً لأني أقابله ببسمة.. أستطيع بسهولة أن أشعر بصدق ذلك..؛ لكنه المسكين.. لايعلم..!! أنها ابتسامة خبث.. لأنني في رأسي.. كشفت مخططه السري..!! يالي من وغد..!!
    **
    عموماً، في حياتي القادمة.. أتمنى أن أكون شخصاً أفضل.. وأنقى..
    لكنني قد ألتقي بعجوزٍ آخر.. ويثير أحاديثاً أخرى في نفسي..!!
    لكنني سأحاول.. أَعِدُ نفسي.. -إن كان هناك حياة أخرى- أن أصبح أجمل.. أن أُحسن الظن.. أن أصلي لله أكثر.. أن أنتمي إلى فكرةٍ أكثر جدوى من الكتابة.. ألّا أكون مدخناً.. ألا أكون سوداوياً -إلا قليلاً إن تطلب الأمر-.. أن أكون أقرب.. إلى نفسي.. أن أتزوج من تلك التي أحببت.. ألا أسمح لميمونة.. أن تموت فجأة.. أن أكون أذكى حيث لاأقع في الحب.. أو في فخٍ واحد.. مرتين..؛ ألا أكون كما لاتريدني أمي.. بل كما تريد.. تماماً..أو أكثر ماستطعت إليه سبيلا..؛ أن امارس الرياضة.. أن أتبع نظام الكيتو الغذائي.. أن أكون أبرد.. أي ألا أسمح للأغبياء الذين يقودون سياراتهم كما لو أنهم في معركة.. باستفزازي..؛ أن أُقَدِّمَ للعالم، ولنفسي، ولعائلتي، وأصدقائي.. أكثر.. أن أقرأ المزيد من الكتب.. أن أتجاهل أكثر.. وأن أنام أقل..وأن أحيا أكثر.. وأن أعيد النظر في رسالتي في الحياة.. على الأقل كل أربع سنواتٍ مرة..
    لكنني..
    وأيضاً..
    في حياتي القادمة..
    سأغادر..
    عند أول فرصة للموت…
    كتبتها هكذا.. بشكلٍ عمودي.. لتكون أوضح..
    **
    سأكون سعيداً في حياتي القادمة.. أو على الأقل أسعد من هذه المرة..!
    وسأكتب.. حين أكون سعيداً.. ليس كالآن.. وستقرؤني.. وتضحك.. لاأن تلعن الحرف وتلعن كاتبه.. مثلما يحدث في هذه العيشة..
    **
    في حياتي القادمة..
    سأكتب أقل.. وأصمت أكثر..
    وسوف أسافر أكثر.. وأقرأ.. ما استطعتُ سبيلا..
    سأحفظ عقلي.. في الجهة المقابلة لمخاوفي..؛ ولن أغادر المنطقة المريحة..!!

وسوف أرهق قلبي أقل.. لأعيش أكثر..

مشاركة

5 3 أصوات
تقييمات المقال
اشتراك
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
تقييمات مضمنة
عرض كل التعليقات

وكُتب في جَبَنَة أيضا

بلا هوية

تأملت والدته أن يكون عوضًا عن أخيه الذي مات، طمأنها والده حين ولادته أنه روح أخيه بعثت فيه وتشكلت في عينيه وأنفه الصغيرة، في طفولته، كان لا يختلط مع أحد، وجلَّ وقته بمفرده، كانوا يطلقون النكات عليه وأنه شبيه لأمن في هدوئها ، في الفصل، كانوا لا يسمعون صوته إلا حين يُسأل سؤالًا يعجزون عنه أقرانه من الأطفال، شيدوا له  أن ذكاءه يعود لوالده لأن العرق دساس، كبر وكبر معه والده، في عزائه، بصم الأهل والأقارب، أنه لا يختلف عن والده عدى بالنظارة التي يرتديها، من حينها وفي الجمعات والمناسبات هو أبو أبيه، لم يناده أحد باسمه، في شيخوخته، وجميع أبنائه وأبنائهم الذين يحملون اسماءهم، أخبروه أنه يشبه صوره والده المعلقة بالحائط بشكل لايصدق، ولكنه، هو وحده، مصدقًا، أنه يشبه كل شيء إلا نفسه.

هل أنت جاهز للنشر ؟

نرحب في جبنة بالكتاب المبدعين.. فقط اترك ايميلك وسيتم التواصل معك قريبا بإذن الله 

لقاءات حية
تدوين
رسائل مرئية
تجارب
لقاءات حية
تدوين
رسائل مرئية
تجارب

- جميع الحقوق محفوطة لمبادرة متكأ 2021©