شاي جمر

شاي جمر

عهود عريشي

على الرصيف يجلس وتغلي أمامه أباريق الشاي على الجمر الرجل الذي صب عمره في فناجين الحياة ، شيء من الخفّة والسكينة على وجهه يسكب لك في الأكواب شايه المعتّق فتشعر أنك ممتن له وكأنك ضيف في بيته ولست مجرد عابر طريق دفع ريالين للحصول على هذا الشاي ..
يفرش سجادته بجواره وكلما سمع الأذان كبّر وصلّى بجوار موقد الشاي كم من الجمر توارى في صدر هذا الرجل وكم من الرماد بقي بين عينيه ؟
ما لون الحياة التي تركته على هذا الرصيف يصفف النعناع والحبق ويعتق الشاي كحزن معتق في رئة رجل المعركة الأخير !
كل تلك الدروب التي مضت في تاريخه وصنعت ندباتها تلك وتركت في دمه كل هذا الصبر وعلى شفتيه هذا الصمت ، تلك الدهشة التي قُتلت منذ زمن وذلك الانتظار الذي فقد أمل العودة
تمر أمام عينيه مئات الحكايات يومياً على هيئة أيد تمتد لتناوله الريالات وتأخذ الاكواب لكنه يقف كحكاية بفصول كاملة أمام هذا الموقد وقد خفض شراعه وسحب مقعده الصغير وقرر مواجهة الحياة جالساً ، تلك التجاعيد على وجهه ساعات من الهرب والضحك والخوف والطمأنينة ، تلك الأصابع التي تحرك الشاي الآن كانت ترمم وجوه أطفاله الصغار يوماً وربما كانت تتراقص على إيقاع الزير
ذات ليلة حين أحاط به الفرح من كل الجهات وبقيت تقص أشواك الحياة على جانبي الطريق لأبنائه
كانت هذه الكفوف مظلة عظيمة يستظل بها بيت كبير ، وتطعم أفواها تتحلّق حوله كل مساء وحين خفت الضجيج وكبر الصغار واشتعل الرأس شيباً ، وانتهى أوان الركض الوظيفي سحب كرسيه في محاولة لتحريك ما بقي من عمره بأكواب الشاي وإن كانت بلا سُكّر !

مشاركة

5 3 أصوات
تقييمات المقال
اشتراك
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
تقييمات مضمنة
عرض كل التعليقات

وكُتب في جَبَنَة أيضا

بلا هوية

تأملت والدته أن يكون عوضًا عن أخيه الذي مات، طمأنها والده حين ولادته أنه روح أخيه بعثت فيه وتشكلت في عينيه وأنفه الصغيرة، في طفولته، كان لا يختلط مع أحد، وجلَّ وقته بمفرده، كانوا يطلقون النكات عليه وأنه شبيه لأمن في هدوئها ، في الفصل، كانوا لا يسمعون صوته إلا حين يُسأل سؤالًا يعجزون عنه أقرانه من الأطفال، شيدوا له  أن ذكاءه يعود لوالده لأن العرق دساس، كبر وكبر معه والده، في عزائه، بصم الأهل والأقارب، أنه لا يختلف عن والده عدى بالنظارة التي يرتديها، من حينها وفي الجمعات والمناسبات هو أبو أبيه، لم يناده أحد باسمه، في شيخوخته، وجميع أبنائه وأبنائهم الذين يحملون اسماءهم، أخبروه أنه يشبه صوره والده المعلقة بالحائط بشكل لايصدق، ولكنه، هو وحده، مصدقًا، أنه يشبه كل شيء إلا نفسه.

هل أنت جاهز للنشر ؟

نرحب في جبنة بالكتاب المبدعين.. فقط اترك ايميلك وسيتم التواصل معك قريبا بإذن الله 

لقاءات حية
تدوين
رسائل مرئية
تجارب
لقاءات حية
تدوين
رسائل مرئية
تجارب

- جميع الحقوق محفوطة لمبادرة متكأ 2021©