محمد بن حسن أبولحسة
صادفت صديقًا بأروقة الكلية مضى عهدٌ منذ آخر حديثٍ مطولٍ يجمعنا، فما كنا إذ نلتقي سابقًا حتى نشرع بحديث مقتضبٍ تقتضيه عجلة أمري أو أمره، إلا أن حينها شاء الله فراغنا لوقتٍ يطيب به الحديث دون طارئ يقود لتعجلٍ وتعذر، وصديقي هذا خفيف الظل سهل الحديث واسع الترحاب، وقد كان فيما مضى زميلًا في الثانوية، فما انفككنا يومًا بعدها والتقينا إلا وكنا كسابق عهدنا في الصداقة، فليس ممن تبدلهُ نوائب الدهر أو طيلة غياب، وليس ممن يشيح بعينيه عنك هربًا من مجاملات الترحاب، وأحسبني أيضًا مثله؛ ولذلك سهل بيننا الحديث والتضاحك.
بدأ بيننا التساؤل عن حال الدراسة فمواعيد التخرج وشذرات من هنا وهناك لا تسر الخاطر أو تمتع النفس أو توقد الذهن؛ إلا أنها وسيلة بدءِ تواصلٍ أحدثها العام الأخير في الجامعة، قُدنا بعده لحديثٍ ممتع يبدو للمتنصت للوهلة الأولى حديثُ غيبةٍ ونميمة، وحاشى أن يكون بذلك!، فقد كانت جملته التي سأورد تفاصيلها في مقالتنا هذه، لا تعدو عن كونها قضية اجتماعية تهتم بالذوق والصالح العام!، وقد كنا أنا وصديقي هنا أقرب للمصلحين الاجتماعيين منه للمغتابين وخبثاء الطوية، وهذا على صعيد بواعثنا، فإن لجأتُ للصعيد الفقهي لانتهيت إلى حقيقة براءتنا فورًا!، حيث إن الغيبة لا تقع دون غائبٍ يُغتاب، ولعدم وجود أحدٍ بعينه في سياق حديثنا؛ فالغيبة إذًا لا تعدو عن كونها ظن سيء يثيره الهزل والضحك، وإثر ذلك أوجبت على نفسي التوضيح؛ لأجل سياقنا هذا ولأجل السياقات المستقبلية.
يشبُّ الطفل قديمًا بين أقرانه؛ فلا يكاد يختلف عنهم إلا بالقدر اليسير الذي يكوّن ماهيته، فإن غلّ في الاختلاف عدّ بالشاذّ عنهم لما يقتضيه حجم هذا الاختلاف، وما كان شاذًا عن طبيعة الأقران قديمًا أصبح بنطاق الطبيعية اليوم!، وذلك لتوسع المجتمعات وانفتاحها على الثقافات المختلفة، إلا أن صفة الشذوذ هذه بقيت!، لكن حالت لشكلٍ أشد تطرفًا، وإن كان المقصد هنا بالشذوذ أنه كل ما يثير الغرابة والاستهجان، إلا أنه عامةً يبقى مصطلحًا فضفاضًا لا تندرج تحته ثوابتُ لاختلاف المجتمعات والثقافات والتشريعات، ولكن لخدمة المقالة هنا لنعرفه بكونه (كل اختلاف يثير الغرابة والاستهجان والحرج بنسب متفاوتة؛ يقدرها المجتمع ولا يرزح تحت طائل مواد قانونية) وحسبي بهذا أن يكون تعريفًا أحتكم إليه بهذا الشأن.
أشعرت يومًا بالحرج نيابة عن أحدهم؟، شعور غريب بالخزي والخجل، يصحبه نفس طويل وإغماض للعينين مع رغبة ملحة بكسر الهاتف إن كان الباعث مقطعًا قصيرًا أو الهرب إن كان الباعث حاضرًا أمامك، أفعالٌ لا تُقبل مجتمعيًا، وكلماتٌ أشبه بقيء أعجميٍ من قيء عربي رغم عربيتها!، ناهيك عن تعابير الوجه المثيرة للسخط!، وكلها سقطات نتسامح مع حدوثها كنوادر لكونك أنت بنفسك قد تقع ضحيتها، إلا أن هنالك من هو موسومٌ بها!، لا يُعرف إلا بالتفاهة والحماقة المثيرة للجدل والخجل، فإن تحدث كان عنوانًا للسفاهة والبلاهة أو الركاكة؛ والأخيرة إن وضع نفسه موضع المتحدث اللبق موفور الكلمات والمعاني وذلك لأشد، وإن تحاور كان أول من يضع منهاجًا لبلادة الرأي وفساد الحوار لشدة تنطعه ورغبته في إثارة الجدل أو الهزل، وإن مَزح أثرت مزحته سمجة، وإن نصح تراء نصحه تكلفًا وجانب سدادة الرأي، وإن عصى جاهر وأفشى وذلك لأنكى مما قد ذكرت آنفًا!. وتلك بعض الصفات التي لا يستوجب الاتصاف بجميعها، بل يكفي وجود اثنين منها لينطبق على صاحبها تعريفنا أعلاه ويسهل بذلك حل المعضلة.
يُقال “قل لي من صاحبك؛ أقل لك من أنت” قاعدةٌ جميلة جرت على ألسن الناس لما فيها من معنًى جميلٍ ومقصدٍ شريف، وعلى الرغم من مخالفتي بمضمونها لكونها أجمل من أن تكون واقعًا، إلا أنني أسلم بمدلولٍ آخر لها، وهو أهمية الصديق في تكوين الفرد ونشأته، فإنه لا يشترط تشابهك وصديقك طبعًا، إلا أن تأثيره عليك لموجود!؛ لا ينكره إلا موهوم، فبجانب تربية الوالدين ومبادئ الفرد السليمة يشكل الصديق عاملًا محوريًا في رفعة الإنسان أو ضعّته، ومن حكمة الله جعله اختيار الصديق بمثابة امتحانٍ قد يطال نتائجه الندم يوم الحساب، فقد قال تعالى على لسان أحد المشركين: ( يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا )، والاتخاذ هنا يدل على حرية الابتعاد أو البقاء، فالمرء لا حول له في اختيار والديه وأخوته أو عائلته ومحتده؛ ولا يحاسب على وصلهم وإن أساءوا بل قد يؤجر، إلا أن وصل الصديق السيء بعد محاولات نصحه وتغييره لظلمٌ شديدٌ للنفسِ وهدرٌ كبيرٌ في الوقت، وضياعٌ مؤلمٌ للعمر والرفقة الطيبة، وأما من تأخذه العزة بالنفس فلا يسمع لنصحِ حبيبٍ أو لتوجيهِ قريب، لهو في حماقة عظمى وجهالةٍ تُرثى تحول دونه ودون الحياة السليمة والشخوص الطيبة.
والإشادة بدور الصداقة مهم في مقالتنا هذه، ولذلك آثرنا ذكرها للتشديد على واجبات الصديق على صديقه ولإطالة ديمومة الرفقة بين الرفيق ورفيقه، وفي تعريفنا للشذوذ بين الأقران وهو “كل اختلاف يثير الغرابة والاستهجان والحرج بنسب متفاوتة؛ يقدرها المجتمع ولا يرزح تحت طائل مواد قانونية” أردنا أن نعرّف المشكلة ليسهل رصدها فحلها، فوسعت دائرة التعريف لتشمل بعض الأطياف ممن أتفق والكثير على غرابتهم وفداحة تصرفاتهم، ولن أشير بذلك لتصرفاتٍ بعينها، وحسبي بإذن الله أن يكفي التعريف أعلاه للتقريب والتسديد.
في العقديّن الماضيين شهدت مجتمعاتنا انفتاحًا مهولًا على الثقافات المختلفة، ونتج عن ذلك استيراد بعض الأفكار والتصرفات الغربية إلى مجتمعاتنا المحافظة -التي قد لا تكون بمجملها سيئة إلا أن معظمها كذلك- ، ومع تزايد الفجوة والإهمال من المعنيين في بداية الأمر تداخلت بعض الأفكار والمعتقدات الغربية بأفكارنا ومعتقداتنا العرفية والأخلاقية والدينية، وما مضت برهةٌ إثر ذلك إلا وتصدر بعض المشاهير ممن اشتهروا بالحماقة والبلادة الساحة، وأضحت الشهرةُ مطلبًا وغاية ترامُ مهما كانت الوسيلة إليها، ولكون الإنسان مجبولٌ على التوقف عند كل ما يثير بنفسه الغرابة، فقد توافقت خوارزميات البرامج مع تلك الجبلّةِ خير توافق، لتجد بعدها الحمقى والسفهاء يتصدرون الساحة دون أصحاب المحتوى المفيد أو الممتع الحميد، ولندرة اتفاق الجمع على حب أحدهم، يندر أيضًا بغضهم كذلك، فتجد هؤلاء السفهاء من المشاهير ولهم في الجمهور محبين وتابعين، تروق لهم تصرفاتهم ويحذون حذوها في البيئة الضيقة في مواقع التواصل الاجتماعي، أو بين الرفقة والمعارف في حدود المحافظة أو المدينة، وهؤلاء من أردنا تسليط الضوء عليهم في هذا السياق، وربما نتطرق للرؤوس الكبرى في سياقاتٍ أخرى.
خُلقت يا أدمي بطبيعة اجتماعية محضة، فمنذ ولدت وإلى موتك اعتزت إلى أيدي الغير من أهل وصَحب، وإن ادعيت الانطوائية والعزلة فلا زلت على قدرٍ من الاجتماعية بين أهل بيتك والرفقة المحدودة، ولهذه الطبيعة الاجتماعية حقوقٌ لك وعليك، فلا ينشئ مجتمع إلا بالإتيان بالقدر الأدنى من تلكمُ الحقوق، وهي على هذا الصعيد حقوق تحركها الحاجة للعيش والتكاثر والأمن، وكلما ارتقينا الأصعدة جاءت بصفتها حقوق تحركها الحاجة للحب والرفقة والمتعة، حتى تسمو لتأتي بصفتها حقوق لا تحركها حاجة بل فضيلة، وهي شعور بالواجب يقتضيه الدين في حبك لأخيك ما تحبه لنفسك من ثم الضمير الحي، فإن اجتمع الدين مع الضمير فهذه نعمة، وإن لم يحركّ الضمير فحسبك دينك!، ومن هذه الحقوق حق صديقك عليك في نصحه وتوجيهه، والتي يستثقلها العديد لما فيها من تحرجٍ وغرابةٍ تلحقها النصيحة بينكما، والنصيحة هنا لا يشترط بأن تكون تحت مظلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا واجبٌ لا لبس فيه والتحرج عنه خطيئة، إلا أنها تحت مظلة نقد الأفعال والأقوال البليدة والتافهة، وهي حقٌ عليك تجاه صاحبك ما إن وجدت عليه ما يشين ويثير السخرية من حوله، وما يجعله مضغة في أفواه المغتابين وحكاية في مجالس المتسلين، ونادرةً يتندر بها كل من لم يجد دعابةً تُحكى أو آراء تُدلى.
والعجب الذي طالني وصديقي ذلك اليوم لم يكن إلا على تلك الفئة المثيرة للغرابة والاستهجان، حتى وصل لقوله المحرك لكتابة المقالة هذه وهو فيما معناه ” أليس لهم أصدقاء يردعونهم!، ينبئونهم بالتصرف السليم ويقنعوهم به!” وتلك لعمري لإجادةٌ منه!، فإن لم يخبرني صديقي بما يعيبني فما الداعي لرفقته؟، وإن لم يأخذني على محمل الجد ويجنبني المعابة فما الباعث على صداقتنا؟، إلا أنه قد يكون هنالك من الرفاق من يستشعر ويرغب وتأبى نفسه عليه البوح، والحل هنا سهل بسيط؛ مكاشفةٌ وسؤال ورغبة حقيقية بالنصيحة والتوجيه من الطرفين، فيا فلان أخبرني إن كنت كذا وكذا وإن وقعت في كذا وكذا، ولا تدعني رهن نفسي فإن النفس لتضيع، ولا تتركني رهينة قولٍ وفعلٍ أراه بصورة تخالف الواقع وتعاديه، وبهذه المكاشفة بين الأصدقاء تستمر الصداقة وتثمر عن مشاعر صادقةٍ وأوقات سعيدةٍ لا يعكر صفوها احترازاتٌ ومجاملاتٌ قميئة.
فإن كان من الصحب من لا تسهل معه المكاشفة، وكان ممن يتصف بتلك الأطباع التي قد تكون جزءًا لا يتجزأ من ماهيته، وحال دونه ودون التغير كل نصيحة لطيفة منك وتوجيه، فالقسوة هنا واجبة والصراحة القاسية وإن كانت جارحة خير ملجئ، إلا أن من الحكمة تجنبها وإبقاء أواصر الاحترام والتقدير قائمة بينكما، فلا تجرح وتقسو مدعيًا الصراحة، ولا تترفع بقولٍ وتستصغر بإيماءةٍ مدعيًا حب المصلحة، فالإنسان تعز عليه نفسه، ولن يستمع لنصيحة تأتي من مقام ترفعٍ ودراية، بل بالنقاش والتحاور والإنصات، لكن كما ذكرت آنفًا، قد تستدعي بعض الحالات والشخوص قسوة وغلظة والخير في العمل بها وإن نتج عنها فراقٌ وقطيعة، ففي سبيل تجنيب صديقك السخرية تبدو القطيعة حلًا جيدًا إن أثبت نتيجته، وإن لم يتغير بعد كل جهودك فحسبك ما فعلت، وعليك تقدير جدوى استمرارك معه، فإن غلبت محاسنه مساوئه؛ فالصبر على تفاهته وحماقته مقدورٌ عليه، وإن لم تغلب فمالك ومال العناء!، والظن بأنها غالبًا لا تغلب؛ فالفراق أسلم.
وأما عن العنوان ((صادق من ينهبك برائحتك الكريهة))، فهو فيه من المبالغة ما فيه، إلا أنه ينطوي على أمورٍ عديدة، فالأصل أن لا تنتظر أحدهم لينبهك برائحتك الكريهة، وتلك مبالغة قصدتها لندرتها وشدة ما يقابلها من نفور صحبٍ ومعارف، مستثنين منهم من يعاني حالةً صحية شفاه الله وعافاه، فبالمجمل يعود تأقلم المرء مع مجتمعه على قدرته في قراءة الواقع المجتمعي من حوله والأفعال التي تثير سخط المجتمع ونفورهم، والصديق ما هو إلا عامل مساعد يناصح ويكاشف، فإن لم تكن لديك تلك القراءة للمجتمع فصديق تأمنه قد يساعد، وإن لم يكن لديك كلاهما فاختبارين اثنين قد يساعدان، الأول هو شعورك بالخجل من بعض تصرفاتك وأقوالك القديمة، فإن لم تشعر قط بذلك فحسبك هنا دون الاختبار الثاني؛ فأنت بحاجة لمراجعة نفسك ولمشورة من ثقاتٍ حولك، فإن شعرت بذلك الخجل هلمَّ للاختبار الآخر؛ وهو شعورك بالخجل نيابةً عن أحدهم لقولٍ أو فعلٍ صدر منه، فإن لم تكن هنالك سابقةٌ بذلك، فحسبك أيضًا أن تراجع نفسك وتستشير، وإن شعرت فذلك لا يعني اطمئنانك لفطنتك وذكائك الاجتماعي، فالأصل أنك ستندم على ما قلت وفعلت غدًا، فتلك سنة من سنن الحياة وطبيعةٌ سبق وذكرناها أعلاه، حتى أنا قد أندم يومًا على هذه المقالة، وأرى فيها ما قد اختلف معه وأخجل، فإن رأيت أنت ما يعيبها الآن فذلك تطورٌ تمنحني إياه، وإن لم تجد فذلك بفضل الله.
جميل استمتعت بكل كلمة كُتبت تذكرت إسهابي وتمعني في القراءة في المنتديات القديمة والمثريه معناً ومضموناً ، شدني تعريفك بكل موضوع تتطرق إليه قبل أن تذكر تجربتك أو زاويتك الخاصه تجاه هذا الموضوع موفق أخي محمد ونتمنى أن نرى الكثر في هذه المواضيع البناءة ; مشعل 🤍..