مقعد واحد

مقعد واحد

عهود عريشي

في المقاهي يجب أن يتركوا طاولة بمقعد واحد للأولئك الذين يستسلمون لعزلتهم مثلي ، للذين تتناولهم أكواب القهوة كمزاج يركض خلف أشجار البن الأولى وبذاكرة تبتلع الماضي وتمزقه على أطراف الورق الأبيض ، للذين يكتبون من الدمعة صفحة ثم يحرقونها ، لمن يرسم من الصفعات شبح ابتسامة يلوّح به لأي فكرة حزنٍ قادمة ليُرهب به أي قطار ذكريات قد يرتطم به فيدهس أيامه التي صنعها بعناية ، كشخص يحرس مزاجه يوميا بمجهود مضاعف طوال النهار كفزاعة يقف أمام كل ما يمكنه نهش هذا الرأس ، يردد تراتيل الأمل كنشيد وطني لدولة محتلة لم يبقى منها شيء متماسك سوى هذا النشيد !
وأنا أمرر أحمر شفاهي الباهض الثمن على المرايا وأكتب به في كل يوم كلمة صمت على المرآة قبل شفتي ، أجتهد في ترك القناديل القديمة معلقة في سقف الماضي غير مكترثة بأضوائها التي تلاحق عينيّ ..
أستطيع أن أقول الآن أنني صنعت من ظلي رفيقاً جيداً ، أصبح يهمس لي كلما وطء حدوده ظل غريب ، كلما سمحتُ بمساحة جيدة يخترق فيها أحدهم صدري ، كلما بللت بمطر الوهم وجهي يأتي النداء عاجلاً لأُحكم إغلاق الدائرة من جديد ، حتى لا أُسرف في بقايا الثقة التي لازلت احتفظ بها والتي لم أعد أعرف لمن تُمنح !
تلك المقاعد المهدرة حول طاولتي التي أجلس عليها الآن في المقهى تنظر إلي كأشباح منتصف الليل تحاول إخافتي ، تذكرني أن الطاولة تتسع لأكثر من شخص ، في محاولة فاشلة لإثبات فكرة قديمة سبق أن اقتلعتها من جذورها منذ زمن !
وها أنا أُدير مهجة الصبح بالفناجين والموسيقى ، لا شيء يغري في الصباح سوى الموسيقى لا شيء يشبه الصباح كفيروز و غني يا فيروز ” يا طير يا طاير على اطراف الدنى لو فيك تحكي للحبايب شو بني يا طير ” .

مشاركة

5 1 صوت
تقييمات المقال
اشتراك
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
تقييمات مضمنة
عرض كل التعليقات

وكُتب في جَبَنَة أيضا

بلا هوية

تأملت والدته أن يكون عوضًا عن أخيه الذي مات، طمأنها والده حين ولادته أنه روح أخيه بعثت فيه وتشكلت في عينيه وأنفه الصغيرة، في طفولته، كان لا يختلط مع أحد، وجلَّ وقته بمفرده، كانوا يطلقون النكات عليه وأنه شبيه لأمن في هدوئها ، في الفصل، كانوا لا يسمعون صوته إلا حين يُسأل سؤالًا يعجزون عنه أقرانه من الأطفال، شيدوا له  أن ذكاءه يعود لوالده لأن العرق دساس، كبر وكبر معه والده، في عزائه، بصم الأهل والأقارب، أنه لا يختلف عن والده عدى بالنظارة التي يرتديها، من حينها وفي الجمعات والمناسبات هو أبو أبيه، لم يناده أحد باسمه، في شيخوخته، وجميع أبنائه وأبنائهم الذين يحملون اسماءهم، أخبروه أنه يشبه صوره والده المعلقة بالحائط بشكل لايصدق، ولكنه، هو وحده، مصدقًا، أنه يشبه كل شيء إلا نفسه.

هل أنت جاهز للنشر ؟

نرحب في جبنة بالكتاب المبدعين.. فقط اترك ايميلك وسيتم التواصل معك قريبا بإذن الله 

لقاءات حية
تدوين
رسائل مرئية
تجارب
لقاءات حية
تدوين
رسائل مرئية
تجارب

- جميع الحقوق محفوطة لمبادرة متكأ 2021©