” إننا بخيالنا نجتاز الزمن أو نحاول ” ..
أو نحاول.. أحاول أن اُحادث أبي:
] لقد مضى وقت طويل منذُ أخر مره رأيتك واقفا ..
تمدد هادئا يا أبي فالحياة لم تعد مناسبة للوقوف..
والكوارث والأوبئة اجتاحت النفوس ومع ذلك يا أبي
مازلنا نكبر ونترعرع على جمال سيرتك وأهالي
القرية ما زالوا ينادوننا بلقبك ” … “
وشمس سنوات متتالية لم تشرق على منزلك، في
أعماق قلوبنا ظلمة تفتقد نورك ومتاهات ماكرة تنتظر
نظرتك الحالمة.
وبالرغم من كل الجهد المبذول لمحاولة الصمود أمام
فقدك، جهدا مؤثرا كي نبدو مرحين ولطفاء غير أن
شحوبنا يكفي لمعرفة أن ارواحنا تحمل الكثير..
إننا ننتهي لــ النوم مثل أطفال، تصور يا أبي أننا ننام
جائعين ودون أن نعرف ما إذا كان في المنزل طعام أولا..
إنها الشهية التي تجعلنا نرى الطعام مجرد طعام لا أكثر..
أسماء يا أبي مازالت تردد جملتها الشهيرة عصرية
كل يوم” شاهي بابا “.. والأكثر ألما من ذلك أنها
مازالت تقول ” يا رب عافي بابا “..
كنت أظن أنها لا تدرك سياق الترحم عليك أما الآن
فتأكدت أن الأمر أكبر من ذلك فهي ” تعرف السياق
لكنها تُنكر”..
وأمي لم تحسن التصرف بعدك فدلالك الذي منحتها لم
يساعدها على استيعاب أنها أصبحت المسؤولة الوحيدة،
لقد صارت عجوز يا أبي فالمرض اهرم أمي أكثر مما
توجب عليه سنها..
احمد يتساءل كل يوم ” ما بكم؟ ” وهو يعرف الإجابة..
عائشة كانت تريد طفلا لأن رغبتها في اللحاق بجدّه تفوق
رغبتها به.. أشجار المانجو يا أبي إحداهن بُرِقَت وثلاث
يبِست دون سبب واثنتان تسارع الحياة وآخر شجرة زرعتها
كبرت لكن ثمارها تسقط قبل اكتمالها.. أما كتبك فهي ترفضنا
كل ما حاولت مسحها وإعادة ترتيبها تمنعني روحها التي اشتاقت
لروحك..
مستودع المقاضي الذي اعتدنا على تسميته بهذا الاسم أصبح
مستودعاً للملابس.. وجلسة الأرض استبدلناها من وقت مرضك
بطاولة طعام تتسع لأربعة اشخاص فقط لأننا حينها نظمنا ورديات
غياب لرعايتك أما الآن فهي لا تتسع لشيء سوا الروتين..
وثوب العيد الذي لم ترتديه ثقبته دودة الأرضة.. ومسبحة مصعب
التي اهداها لك مازالت في علبتها تنتظر تسبيحك..
أما مصروف البيت فلم نحسن صرفه لقد صرنا أشد عربدة وتبذيرا
وأكثر من أي وقت مضى..
أما القطط فهي كثيرة كما كنت تحب إنها تذهب وتعود لـ النوم في
اركان البيت.. وبالنسبة للرياضة فنحن مهتمون بها، مصعب اشترى
آلات رياضية مازالت في صناديقها منذُ سنتين تقريبا وعبد الرحمن
يا أبي اشترك في نادي اللياقة لكنه غير مواظب عليه، أحمد وميمونه
وعائشة يمارسونها في المنزل، نحن مهتمون بها لأسباب نفسية وليس
لاهتمامات صحية أو جسمية كما كنت تفعل..
لقد لاحظت منذُ ذلك الوقت الذي رحلت فيه شيئا لم يكتشفه أحد
من قبل وهو: أن الأشجار التي كانت تثمر لم تعد كذلك والنباتات التي
كانت تزهر لم تعد أيضا كذلك حتى شجرة التين التي كانت الخفافيش
تتسابق إليها لم تعد كذلك.. وما زلنا نفكر بزراعة الزهور والنباتات
في المنطقة التي ماتت فيها أشجارك لكن تربة المنزل أصبحت مليئة
بالحشرات والنمل الطيار..
لقد انتهت المبيدات والخرسانات من منزلنا ولم نعرف من أين كنت
تأتي بها يا أبي.
انهيار المعنويات اوصلتنا إلى حالة مزرية جعلتنا نفشل في إدارة
أي شيء , نفشل حتى في إدارة أي حديث تافه وبلا معنى فيما بيننا..
حتى الأيام من بعد موتك تحولت إلى ليالي مظلمة وطويلة ومتشابهة
حد التطابق، منعنا رحيلك من رؤية أيام الصحو والشمس بها..
إما في سنوات مرضك وعندما يسألنا أحدهم عن حالك؟ كنا نُجيب
بإيماءة تنم عن حزن عميق ” الحمد الله ” ثم تنبعث خنقات احتجاج
تبعثنا على السكوت بدلا من مواصلة الكلام والبكاء..
أما بعد رحيلك فالجميع أصبح حزين وضعيف.. لكننا؛ نبذل جهدا
كي لا نسمح له بالتغلب علينا ولم يدري أحد ما إذا كانت مسؤولياتنا
القسرية أو التزاماتنا الوظيفة أو الحزن الإجباري هي السبب في
اختفائنا شيئا فشيئا عن ساحة الأنظار..
تمعن يا أبي حولك وستجد أننا مازلنا نحفظ بصورة أكيدة مكان كُل
شيء من اشيائك , حتى أنها هي الأشياء نفسها من استبدلت أماكنها
تعبيرا عن حزنها عليك.. أما الأشياء الجديدة التي حدثت جعلتني
معذبة بشكوك خطيرة حول فعالية الأساليب التي علمتنا إياها للتعامل
مع هذا العالم الهزيل.. فبعض أقاربنا يتحدثون معنا مثل فلكي ويلتووا
كحية لكن خيرك يقتادنا إلى قمة الأمان دائما حيث إنه الشيء الوحيد
والعظيم الذي جعلتنا ندركه إلى جانب الإيمان.. هذان الشيئان يا أبي
غير المرئيان والمنعقدان في بصيرتنا حتى الموت جعلنا نرى الخراب
الذي يتقدم إلينا من باب رحيلك على أنه ابتلاء و الله لا يٌمكن عبادة إلا
بعد أن يبتليهم..
أود إخبارك يا أبي بأنه قد حدث تغيير جذري في الهيئة الأخيرة
لشخصيتي وتغيرت قناعاتي إتجاه أمور كنا قد اختلفنا عليها سابقا
ومنها ذلك النسر! لابد وأنك تتذكره؟ ذلك الذي اعتدنا على رؤيته
صباحا أنت تقول نسر وأنا أقول صقر لقد عرفت مؤخرا أنه ما كان
إلا نسرا جارحا لا تليق به إلا الجثث كحال بعض أقاربنا والمهم أننا لم
نعد نراهم …
الحزن هو الحزن والحنين هو الحنين والموت مازال يمارس طقوسه
يا أبي.. وإنني أدرك أن الوقت قد فات على إمكانية شفائك وتعافيك لأنك
قد مت لكنني أتساءل وأنت الوحيد الذي يمكنه الإجابة علي..
هل الوقت أيضا قد فات على إمكانية رؤيتك؟ ولو لمرة واحدة يا أبي.. [
يا لها من محاولات بائسة.. يا لها من حياة لم تعد تلفت نظري..
أعبر بجانبها أو أنها هي من تعبر بجانبي فلا تصيب مني اهتماما لكثرة
ما تسرب وما سيتسرب مني.. كم كان عمري عندما كنت مفعمة بالحياة؟!