من أنتم ؟
لقد كنت أخاطبكم على الدوام بـ ( أيها الرفاق أو أيها السادة )
إنني أحاول أن اجعلكم مقربين .. أحاول أن اصطنعكم ..
أن أجعل لدي جمهور أو أن أتخيل ذلك .. أتخيل أن هناك من
يقرأ لي .. أو أن هناك من ينتظر سلسلة ( مِلء كُل شيء ) ..
أو أن هناك من تعنيه كلماتي .. أو من يشاركني الألم ..
كل هذه التخيلات أفترضها بيني وبين نفسي كل ما هممت أن أكتب ..
لأمسك قلمي برهبة وأشرع .. فتارة أكتب صديقي وتارة رفاقي
وتارة عزيزتي وتارة أختي وأنا أعرف أن لا شيء من هذه
الاستعارات حقيقي .. وأنني لا أكتب لأحد .. وأنني مهما شددت
من نداءاتي لن أُجاب .. ومع ذلك سأستمر في الكتابة سأكتب حتى
لا أصاب بالجنون .. وحتى لا أفتعل أصدقاء على وجه الواقع كما
أفعل على وجه الورق .. وحتى لا يُسمع صوت بكائي الذي يثير
الاشمئزاز .. وحتى لا انفجر أمام عائلتي .. وحتى لا أفكر أن أهتم
بمظهري .. وحتى لا اضطر لأرتدي ملابس ملونه تخفي كآبتي وهو
مايجعل من النظر إلي أمر مزعج .. وحتى استطيع أن امسح دمعتي
في أقصى سرعة ضوئية .. وحتى لا يزيد تقوقعي على ذاتي ويتقلص
حجمي والحيز الذي استهلكه في هذا الفضاء أكثر مما تقلص .. وحتى
أستطيع أن أخفف من عمق تلك الطعنة المزروعة في كبدي ، والتي
بدأت رحلتها من العقل ومرورا بالقلب واستقرت في الكبد ..
تأملوا ذلك من دون تأثّر ؛ كيف لفظاعة سلسلة ألم الطعنة هذه أن
تصيب عقلك الذي يعني التفكير و قلبك الذي يعني الحياة وكبدك
الذي يعني التصرف …
**
ولكم أن تتخيلوا أنني انطعنت في رمضان .. انطعنت والشياطين
مسلسلة والشر مسجون .. وحدها الصدور من يتجول فيها السوء ..
انطعنت في رمضان أربعة أعوام ورمضان لم ينتهي بالنسبة لي ..
أربعة أعوام والوقت في غير عادته .. أربعة أعوام والأيام تدور حول
نفسها وأطفال الجيران لم يكبروا وارصفة الشارع لم تتغير والبذور
التي زرعتها لم تنبت وشمس النهار مكسوفة والسماء مرشوخة
بالبروق والأرض في حالة جفاف مؤسف .. أربعة أعوام والمناخ بارد
خانق و المشاعر في هذيان مضطرب والأمور معرقلة والمصاعب
منتصرة والاقدام مترددة والحسابات خاطئة واللقاءات مجبورة والرسائل
بلا معنى والقهوة باردة والصور غير واضحة وحده الخراب متقدم …
أربعة أعوام والمطر كئيب والدمع متخثر والأسئلة دون إجابات
ولا شيء يستحق العناء .. أربعة أعوام والمزاج ذاهل والحزن مثابر
والموت يمر ويلعب بالخارج دون أن اهتز له على العكس فاتحة له
الباب .. أربعة أعوام والأحاديث باهتة والصمت الداخلي فائض إلى
أقصى حدوده يقول ما لا ينبغي قوله .. أربعة أعوام والعصافير تدخل
من الباب ولا تخرج ولم يقل احد قط صباح الخير ولا ظهور لأي
نوع من أنواع العون الروحي .. أربعة أعوام والنوم كوابيس ..
والاشباح في أركان البيت والفضول شابع و الأبواب أجمل عندما
تغلق .. أربعة أعوام أخيط الجراح وطعنتي تغطيها الثياب .
***
الأمر يعود إلى مهارتي في إخفاء ألمي ..
فالثياب تغطي الجروح المكبوتة التي تفاقمت من الداخل إلى الخارج ..
والنظارات تُداري خلفها النظرات المسحوبة بالحزن ..
وشرود الذهن الذي يبدأ من مكان وينتهي في مكان أخر
يظهر على شكل أنني منصته جيدة للأحاديث حتى النهاية ..
إنها مهارات تجعل الناس من خلالها تشعر أن الأمور الحزينة
والصعبة ليست كذلك لدينا .. لقد تلبسنا التمثيل بالفعل .. وأنتم تعرفون
أن التمثيل مستعمر مسيطر كونكم سبقتمونا إليه .. غير أن الفرق
بيننا هو أن تمثيلكم مصلحي يدور حول الناس أما تمثيلنا معاناة تدور
حول أنفسنا ولا نهاية له , لأن واقعنا مستسلم لخيال أقوى منه .. ففي
العالم صور لا نراها ببصرنا وقد نراها بمخيلاتنا .. إنها الحقيقة
” أننا بخيالنا نجتاز الزمن أو نحاول “